اتفاقية الصندوق وتعهدات البنك المركزى المصرى

17

اتفاقية الصندوق وتعهدات البنك المركزى المصرى

د. سلوى العنترى

أخيرا تم الكشف عن بعض الوثائق الخاصة باتفاقية القرض المبرمة فى النصف الأول من نوفمبر 2016 بين مصر وصندوق النقد الدولى، والتى تحصل مصر بمقتضاها على قرض بنحو 12 مليار دولار تصرف على مدى ثلاث سنوات. الوثائق تم إعلانها من جانب الصندوق، وليس من جانب الحكومة المصرية. إتفاقية القرض لم يتم عرضها أصلا على مجلس النواب، وفقا لما ينص عليه الدستور. المثير للانتباه أن الصندوق لم ينتظر موافقة وتصديق مجلس النواب المصرى على الاتفاقية بل أفرج على الفور عن الشريحة الأولى من القرض وقيمتها 2.75 مليار دولار. الواضح أن كلا من الحكومة ومجلس إدارة الصندوق يعتبران أن موافقة مجلس النواب فى مصر هى تحصيل حاصل!

الوثائق المفرج عنها تتضمن خطاب النوايا المقدم من مصر لطلب القرض، بتوقيع كل من وزير المالية ومحافظ البنك المركزى المصرى، ومذكرة مرفقة بالتعهدات التى تلتزم الحكومة والبنك المركزى بالوفاء بها سواء كإجراءات مسبقة قبل الموافقة على القرض، أو خلال السنوات الثلاثة القادمة. كما تتضمن الوثائق المفرج عنها التقرير المقدم من خبراء الصندوق لمجلس المديرين التنفيذيين والذى يتضمن تحليل هؤلاء الخبراء للسياسات الاقتصادية والتعهدات المقدمة من مصر، وتوقعاتهم لأداء الاقتصاد المصرى، فى ظل تلك السياسات والتعهدات، ومبررات الموافقة على طلب القرض. ويوضح التقرير أن  صرف القرض يتم على شرائح نصف سنوية، يسبق كل منها مراجعة لما قامت الحكومة بإنجازه من تعهدات وفقا لجدول زمنى متفق عليه.

وقد لقيت تعهدات مصر بشأن خفض عجز الموازنة العامة الحظ الأكبر من اهتمام من تعرضوا لاتفاقية القرض خلال الفترة القليلة الماضية، خاصة وأن تلك التعهدات تتضمن الاستمرار فى تخفيض الأجور الحقيقية للعاملين فى الجهاز الحكومى والاستمرار فى تخفيض دعم الطاقة، بما يعنيه ذلك من إلقاء المزيد من الضغوط على مستوى معيشة القاعدة العريضة من المواطنين. أما تعهدات البنك المركزى المصرى فيما يتعلق باحتياطيات النقد الأجنبى والسياسة النقدية، فلم تلق نفس القدر من الاهتمام، رغم خطورتها البالغة.

تعهدات البنك المركزى المصرى لصندوق النقد الدولى تكشف عما يمكن أن نسميه “تقديس الاحتياطى”. فمن ناحية يشير خطاب النوايا إلى أن حجم التمويل الخارجى الذى تسعى مصر للحصول عليه من الصندوق وغيره من المؤسسات والحكومات و أسواق المال الدولية على مدى ثلاث سنوات يقدر بنحو 35 مليار دولار. ويتعهد البنك المركزى باستخدام نصف هذا المبلغ فى تدعيم  احتياطيات مصر الدولية،  بزيادات سنوية محددة، ليصل رصيد تلك الاحتياطيات فى نهاية يونيو 2019 إلى 33 مليار دولار. كما يتعهد البنك المركزى بأن يتم توظيف تلك الاحتياطيات فى بنوك أجنبية وعدم إيداع أى أرصدة إضافية منها فى الفروع الخارجية للبنوك المصرية.

وتأكيدا على عدم المساس بهذا الاحتياطى يتعهد البنك المركزى بأن يقتصر ما يوفره من نقد أجنبى للحكومة على أغراض سداد مدفوعات خدمة الدين الخارجى وبأن يتم ذلك وفقا لسعر السوق. و يمكن خلال فترة انتقالية فقط أن يقوم البنك المركزى بتوفير النقد الأجنبى للحكومة لتسهيل استيرادها لبعض السلع الأساسية.

طبعا نتوقع أنه إذا كان البنك المركزى سيتوقف، فى مرحلة ما، عن توفير النقد الأجنبى للحكومة لاستيراد السلع الأساسية، فإن البنوك المختلفة سوف تتولى تلك المهمة. ولكن المفاجأة أن البنك المركزى يغلق ذلك الباب، و يتعهد بطلب مشورة صندوق النقد الدولى بشأن السياسة المطلوبة للتدخل، إذا تزايدت مبيعات البنوك للنقد الأجنبى لكل من الحكومة والمشروعات العامة!

المسألة إذن ليس فقط تقديس الاحتياطى ورهنه لحساب مدفوعات الدين الخارجى وقطع علاقته بالبنوك المحلية. المسألة الأخطر هى الحرص على حجب حصيلة النقد الأجنبى المتوافرة لدى البنوك عن تمويل واردات الحكومة من السلع الأساسية التى تمس كل المواطنين محدودى الدخل وشريحة معتبرة من الطبقة الوسطى.  المطلوب على سبيل المثال أن تكف هيئة السلع التموينية عن تولى عملية الاستيراد المباشر لتلك السلع الأساسية، وأن تترك تلك المهمة للقطاع الخاص، لتكتمل هيمنة احتكارات الاستيراد على سوق السلع التموينيةّ!

أما فيما يتعلق بالسياسة النقدية. فقد رأينا كيف اقترن تعويم الجنيه المصرى برفع أسعار الفائدة، وقيام البنوك بطرح أوعية ادخارية تصل أسعار الفائدة عليها إلى 20%. ومنذ ذلك الحين انهالت علينا تصريحات المسئولين بالبنوك بشأن الزيادة الضخمة التى حدثت فى إيداعات المواطنين، سواء ما جاء من تحت البلاطة، أو ما شكل تنازلا عن العملات الأجنبية مقابل الجنيه المصرى للإفادة من الفارق الكبير فى العائد. طبعا تعالت الأصوات تطالب البنوك باستخدام تلك الموارد الضخمة التى توافرت لديها فى التوسع فى إقراض المشروعات المختلفة، على النحو الذى يؤدى إلى زيادة معدلات الاستثمار والتشغيل والنمو. إلا أن تعهدات البنك المركزى فى اتفاقية القرض تشير إلى اتجاه آخر. البنك المركزى يتعهد بأن يقوم بامتصاص وتجميد السيولة المتوافرة لدى البنوك حتى لا يتم استخدامها فى زيادة القروض الممنوحة لقطاعات النشاط المختلفة. فبدلا من التوسع فى الاقتراض يطرح البنك المركزى على البنوك مزادات لربط ودائع لديه لمدد تصل إلى أربعة شهور. وإذا لم تكف تلك الإجراءات للحيلولة دون توسع البنوك فى منح الائتمان يتعهد البنك المركزى برفع نسبة الاحتياطى القانونى التى تلتزم البنوك بإيداعها لديه بدون عائد… إذن، وتحت شعار خفض معدلات التضخم، يتعهد البنك المركزى باتباع سياسة نقدية انكماشية، تقوم ليس فقط على اجتذاب السيولة النقدية من المواطنين لإبعادها عن الاستهلاك، ولكن أيضا حجب تلك الأموال عن تمويل الاستثمار وزيادة الإنتاج. تقديرات خبراء الصندوق أن نسبة القروض الممنوحة للقطاع الخاص إلى الناتج المحلى الإجمالى ستنخفض من 14.2% فى نهاية السنة المالية 2015/2016 إلى 8.3% فى نهاية 2016/2017!

وعندما تفتح عينيك من الدهشة وتتساءل إذا كان الاقتصاد سينكمش فكيف سيتم تحقيق معدل النمو الوارد فى تقرير خبراء الصندوق والبالغ 4%. يأتيك الرد من هؤلاء الخبراء بأن النمو سيتحقق بفعل الزيادة فى تدفقات الاستثمار الأجنبى. وتتساءل مرة أخرى.. ومن أين تأتى كل هذه الثقة فى تدفق الاستثمار الأجنبى؟ الإجابة هى أن البنك المركزى ووزارة المالية يتعهدان بطرح حصص أغلبية فى المشروعات العامة للبيع فى البورصة بقيمة إجمالية 5 مليار دولار خلال السنوات الثلاثة القادمة. فالمستهدف هو اجتذاب الاستثمار الأجنبى لشراء المشروعات المطروحة للخصخصة والتى أدى قرار التعويم إلى الانخفاض الكبير فى أثمانها بالنقد الأجنبى . وهكذا تكتمل حلقة تعهدات البنك المركزى المصرى لتؤدى إلى انكماش الاقتصاد من ناحية وبيع الأصول الوطنية للأجانب من ناحية أخرى.

المقال  نشر فى عدد الأربعاء  أول فبراير من جريدة المصور

التعليقات مغلقة.